مريم أخت موسى وهارون
كانت أكبر من موسى وعندما تزمرت على موسى عاقها الله بالبرص، وعندما ماتت دفنت فى قادش (عدد 1: 20).
ومذكورة أيضاً فى (خروج 15: 20)، (عدد 12: 1-5).
مريم من نسل يهوذا
لا نعرف عنها سوى أنها من نسل يهوذا (أخبار الأيام الأول 4: 17).
[center]مريم العذراء والدة الإله
(يوجد موضوع منفرد لواده الاله)
مريم أخت مريم العذراءمريم زوجة كلوبا
إمرأة حلفى
أخت العذراء: وهى أم يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا.
مريم المجدليةكانت زانيه ودخلتها الشياطين فأخرجهم منها السيد المسيح فكانت تتبعه حتى عند الصليب والدفن والقيامه حيث تحدث معها السيد المسيح.
إذا كان الظن صحيحاً بأن مريم المجدلية تعني ببساطة أنها مريم التي انحدرت من مدينة مجدل (أو مجدالا) فهذا يعني أنها جليلة وجاءت من شواطئ بحر الجليل. والملاحظات في لوقا 23: 49 و 55 تؤكد لنا أن مريم (انظر ص 8: 2 و 3) أتت من الجليل وبالتالي يتأكد لنا الاستنتاج عليها. فإذا كان الأمر كذلك يصبح الاعتقاد بأن مريم المجدلية هي بعينها مريم التي من بيت عنيا، والذي افترضه كتاب قدامى كثيرون، بلا أساس صحيح مطلقاً. كما نعتقد أن محاولة الرب بينها وبين المرأة التي كانت "خاطئة" وغسلت قدمي الرب بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها وكانت تقبل قدميه كما جاءت في لوقا 7 إنما هي محاولة باطلة فعند دراسة النصوص جيداً نجد أن المرأة التي كانت خاطئة ومريم من بيت عنيا ومريم المجدلية، ثلاث شخصيات متميزة، وعلينا أن نميز كذلك بين مسح قدمي الرب في لوقا 7 وبين دهن قدميه المسجلة في كل من متى ومرقس ويوحنا. لاشك أيضاً اختلاف أدبي واضح ذات معنى متميز تجعلهما مختلفتين تماما فعندما نقرأ النصين في روحهما لا في حرفيتهما نصل إلى الحقيقة بأن الروايتين تختلف فيهما حالة النفوس ومراحل الاختبار الروحي التي توصف بهما كل حالة.
ويرد أول ذكر لمريم المجدلية في لوقا 8 وعلينا أن نقرأ النص كله ليمكننا أن نفهم فهماً صحيحاً معناه الحقيقي "وعلى إثر ذلك كان يسير في مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت الله ومعها الاثنا عشر. وبعض النساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض. مريم التي تدعى المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين. ويونا امرأة خوزى وكيل هيرودس وسوسنة وأخر كثيرات كن يخدمنه من أموالهن" (ع 1 - 3). في هذه الكلمات المختصرة نتبين حقيقة موضوع الإصحاح أساساً وهو خدمة الكلمة وبشارة ملكوت الله التي يرافقها تأثيرها على النفوس بقوة الله. ويذكر أولاً كمثال مريم المجدلية بعد الاثني عشر – فحالتها السابقة التي بلغت قمة المأساة إذ كان قد امتلكها سبعة شياطين وصارت تحت سيطرتهم الكاملة. أما كيف وصلت إلى هذا الحد أو ما هي الصورة التي كانت هذه القوى الشيطانية تظهر بها نفسها فلا يخبرنا الكتاب. ومن الصعب أن نقتنع بأن الشيطان يمكنه أن يؤكد على سيطرته التامة على النفس ما لم تنغمس النفس في حياة الإثم والخطية. وفي الإصحاح عينه نرى في رواية مجنون كورة الجدريين النتائج المؤلمة لسيطرة إبليس التامة. وتكفينا هذه الحقيقة بأن سبعة شياطين قد اتخذوا مسكنهم في نفس المجدلية وجعلوها إناءً لقوتهم الشريرة. ولقد دعاها الناس بأنها شيطانية خطيرة وبالتالي تجنبوها فصارت مكروهة، وأضحوكة بسبب عواطفها غير المنضبطة، وبؤسها وحزنها الذي لا يوصف.
ولكن عيني الله كانت تتتبع، بحسب مقاصد نعمته الأبدية في المسيح، لتستريح في هذه النفس المسكينة التي فسدت وتدنست لقد جاءت في طريق الرب يسوع في زمانه إذ كانت من بين النفوس الهالكة التي جاء ليطلبها ويخلصها. لم يعلن لنا أين وجدها ولكننا نعرف أن قدميه المباركتين كانتا تطئا شواطئ بحر الجليل. ومجدالا لم تكن بعيدة جداً عن كفرناحوم حيث كان الرب أحياناً يقيم في بيت أثناء خدمته (انظر مرقس 2: 1). والتقى بهذه النفس المنبوذة والمسكينة وبقوة كلمته طرد منها السبعة الشياطين. وحررها من سلطان الظلمة ونقلها إلى ملكوت الله الذي جاء ليعلنه. قيا له من تغيير مبارك! تلك التي كانت عبدة لإبليس تتمم أوامره وكيفما كانت بغيضة وشريرة في جسدها ونفسها وهي تحت حكمه الشرير ولكنها أحضرت الآن إلى دائرة مباركة حيث تتعظم النعمة ويتمجد الله وحيث تجلس عند قدمي الرب يسوع لابسة وعاقلة. حقاً إنه انتقال من الظلمة إلى النور ومن العبودية إلى الحرية. وبكل يقين فإن قلبها صار في لحن منسجم بالشكر مع مخلصها. ومرة أخرى نقول يا له من تغيير مبارك! قبلاً كانت سبعة شياطين تحكم قبضتها عليها وأما الآن فقد امتلك قلبها الرب يسوع وحفظها لنفسه واجتذبها من ذلك الحين لتتبعه في طريق التكريس والمحبة.
إن النتيجة الأولى لكلمة الرب هي التحرر و العتق وبعد ذلك الانجذاب. نقرأ "ومعه (أي يسوع) الإثنا عشر وبعض النساء كن قد شقين من أرواح شريرة وأمراض مريم التي تدعى المجدلية. إلخ". لذلك فقد كانت مريم واحدة من أولئك الذين كان لهم الامتياز الذي لا يوصف بأن يكونوا مع الرب في بعض رحلاته التبشيرية. كيف تأتي لها أن تكون في رفقة وكيف صار لها أن تتوقع البركة مع أولئك الذين في مجد ملكوته سيتبعون الخروف حيثما يذهب؟ الإجابة البسيطة لهذا السؤال أنها اجتذبت بالنعمة لمخلصها. إنها صفة هذا الإنجيل التي تنساب فيها النعمة بكل قوة من ربنا ومخلصنا حتى أن أولئك الذي صاروا غرضاً لها في أعوازهم وأحزانهم قد أخضعوا وتحرروا من كل ما يعوقهم، واجتذبوا مثل لاوى ليتبعوه في طريق التلمذة والتكريس له ولهذا لا يمكنهم بدونه أن يفعلوا ذلك إذ صار هو الغرض المشبع لقلوبهم. هكذا كان الأمر مع مريم ومنذ يوم عتقها تميزت بهذه الخاصية وهي المحبة الشديدة. إنها أحبت ذاك الذي أحبها قبلاً وكما نلاحظ غالباً فإنه لا شيء يرضي المحبة بخلاف رفقة غرضها. ولذلك وجدنا أن مريم كانت مع يسوع، ومعه في فرح منقطع النظير لخلاصها من قوة الشيطان، ومعه في آلام سياحته، ومعه في يوم رفضه، ومعه في جاذبية وتعبد إذ فتحت عيناها بقدر ما لتميز مجد شخصه. إنها بلا شك كانت تتعلم أكثر (كما نرى ذلك عندما نتتبع تاريخها) ولكنها الآن في رفقة ابن الله المحبوب ذاك الذي تركزت فيه كل مقاصد الله وأفكاره. كانت تسر بذاك الذي كان هو مسرة الله به. وإذ كانت في رفقة فلا مجال لنوال أي بركة بدونه. ولذلك لم يكن هناك مكان على الأرض يساوي ما شغلته مريم والذين كانوا معها في رفقة يسوع.
يبقى هناك نتيجة أخرى لإعلان المسيح لقلبها بواسطة كلمته. فبعدما يعدد الأسماء مريم ويونا امرأة خوزى وكيل هيرودس وسوسنة، يرجع فيقول "وأخر كثيرات كم يخدمنه من أموالهن". ونفهم من الجملة الأخيرة أنها تنطبق على جميع النساء المذكورات ومنهن مريم وهي واحدة ممن صار لهن امتياز التمتع بهذه الخدم المباركة. ويستتبع هذه الحقيقة التي تقررت أمران أولهما الاعتراف بأن مريم ارتبطت تماماً بالرب. وثانيهما أنه مهما امتلكت فهذه تحت صرفه ولصالح خدمته. هذان الأمران يرينا كيف افتدي مريم تماماً من يد العدو وكيف أقرت تماماً بسلطان الذي فداها. ونجد ذات الشيء في حالة حماة سمعان بطرس التي أخذتها حمى شديدة. وعندما أجاب الرب لتوسلات الذين طلبوا لأجلها فإنه "وقف فوقها وانتهر الحمى فتركتها وفي الحال قامت وصارت تخدمهم" (ص 4: 38 و 39) وحسناً نطلب إن كنا نتتبع هذين المثلين مريم وحماة سمعان. وهكذا يجب أن تكون البداية للنفس المتجددة إنها ليست النهاية التي تصل إليها نفوس بعد سنوات طويلة من اللامبالاة والاختبارات المؤسفة ولكنها هي البداية. إن حياتنا المسيحية ستكون أكثر سعادة إذ كانت كذلك وشهادتنا للمسيح ستضيء بلمعان في الظلمة المحيطة بنا. وإذا كان تقديرنا لهذا المثال وهو مريم يؤكد هذا قوة لنا ويصبح فعالاً في قلوبنا نحتاج أن يشرق النور ليظهر كل المعوقات ونحتاج إلى نعمة لنحكم عليها لتكون نفوسنا في حرية مبهجة لنكون مع الرب في ألفة في عواطفه لنتبعه أينما يقودنا ولكي نخدمه حسبما يعطينا الامتياز والفرصة لذلك.
مريم المجدلية عند الصليب وعند قبر يسوع
لا يسجل شيء عن مريم المجدلية بعد لوقا 8 حتى نراها عند صليب ربنا المبارك. وكل البشيرين (مع أن لوقا لا يورد اسمها) يذكرون أنها كانت شاهدة لموت الرب أو على الأقل من الذين رافقوه في موته. ويلاحظ في الأيام الأخيرة لحياة ربنا على الأرض أنها كانت من بين نساء أخريات يتبعنه ويرد اسمها أولاً باستثناء مرة واحدة في إنجيل يوحنا عندما يضع اسم أم يسوع. "كانت واقفات عند الصليب يسوع وأمه وزوجة كلوبا ومريم المجدلية".والغرض الأساسي لفكر الرب هنا (وكم هو جميل أن نرى ذلك!) هو أمه، فبعدما أكمل الرب العمل الذي أعطاه إياه الله أن يعمل، أراد أن يستودع أمه لعناية تلميذه المحبوب. وفي متى ومرقس حيث ترى المجدلية مع آخرين فإنها تأتي أولاً وهذا يعلمنا بالتأكيد أن الرب يقدر تقواها وتكريس محبتها. ولوقا وحده يقول (ويذكر ذلك مرتين) "ونساء كن قد تبعنه من الجليل" (ص 23: 49 و 55). أما متى فيضع مريم من بين النسوة فيقول: "وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل ويخدمنه" (متى 27: 55)، ونحن نعرف أن مريم واحدة ممن يصفهم لوقا. وكما سبقنا فقلن أنه ليس لدينا تسجيلات للرحلات التي ضمت مريم والنسوة اللواتي من الجليل وقد تبعن يسوع. ولكنه من المؤكد أنهن كن معه في رحلته الأخيرة إلى أورشليم عندما كان يقترب من تقديم نفسه لله بروح أزلي بلا عيب. ويا لها من نعمة متفاضلة تتفق مع هذه النفوس المكرسة أن يسمعن كلماته وينظرن وجهه في أسبوعه الأخير من حياته على الأرض! ولكن قد أخفين حتى اقتربت النهاية لأن روح الله لم ينشغل بهن أو بامتيازهن لأن السماء كلها – وهكذا يقال بحق – كانت تركز نظرها ومشغوليتها بذلك الحمل الذي سيرفع خطية العالم. وعندما يكتمل عما الفداء فإن الروح القدس يأتي بهذه الملاحظة ويسجلها عن أمانة المجدلية والذين كانوا برفقتها.
ولكن لماذا كانت مريم عند الصليب؟ بسبب محبتها لمن فداها من يد الشيطان. امتلك يسوع قلبها وبالتالي انجذبت وراءه إلى أي مكان يذهب إليه وكما ارتبطت به ووحدت نفسها معه في حياته هكذا أرادت أن توحد نفسها معه في موته. ونستشف موقفين متميزين لها عند الصليب أحدهما قبل موته والآخر بعده. ويسجل يوحنا فقط الموقف الأول فيقول: "وكانت واقفات عند صليب يسوع أمه وأخت أمه مريم زوجة كلوبا ومريم المجدلية" (يوحنا 19: 25). والتلميذ الذي كان يسوع يحبه كان أحد هذه الرفقة. وفي البداية فإن جميع التلاميذ بسبب رعب تلك اللحظة إذ كانت ساعة أعدائه وقوى الظلمة، تركوا سيدهم وهربوا. غير أن يوحنا تخلص من خوفه وكذلك سمعان بطرس بعض الشيء إذ "تبعه من بعيد إلى دار رئيس الكهنة فدخل إلى داخل وجلس بين الخدام لينظر النهاية" ولكن يا للأسف فإن بطرس كان قد وثق في قدرته الذاتية وعلى الرغم من التحذيرات التي وجهت إليه فإنه سقط في خطية شنيعة إذ أنكر سيده. ولا ترد أية إشارة عن بقية التلاميذ. ولكن كم كان قلب الرب مقدراً للعرفان إذ رأى بجانبه أربعة من الأمناء عند صليبه لقد شعر بعمق وهو في جشيماني أن الثلاثة المختارين من تلاميذه لم يقدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة ولكنه الآن يتعزى إذ رأى أمامه أربعة مؤازرين لمواجهة قوى الشر والذي بدا للحظة وكأنه انتصار هائل، فإنهم هزموا أحزانهم التي لا توصف، ولا بد أنهم شعروا بالضياع عندما رأوا آلامه وحزنه العميق ولكن كان عليهم مواجهة كل المخاطر التي أصابتهم بحزن شديد وهم يرون ذاك الذي صار كل شيء لنفوسهم.
وعلى كل حال فإن مريم المجدلية هي موضوع تأملاتنا، ولهذا نتجاوز تلك المحبة الفائضة لمخلصنا المائت وهو يستودع أمه مريم إلى عناية تلميذه المحبوب وقد سبق أن تكلمنا بقدر قليل في النقطة في موضعها وما نريد أن نتحقق منه هو المعنى الأدبي لاتخاذ مريم المجدلية مكانها عند الصليب. لقد قيل، وهذا يدركه اصغر مؤمن، بأن محبتها للرب هي التي قادتها إلى هناك وبالتالي فهذا تعبير عن تكريسها التام له. وكأنها بحق تردد ما جاء على لسان إتايّ الجتي قديماً "حي هو الرب وحي سيدي الملك أنه حيثما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك". (2 صم 15: 21). وهي كذلك لغة قلب مريم وهي تتبع سيدها عند الصليب. وإذا أردنا أن نطبق المعنى على أنفسنا فهناك شيء آخر إذ أن موت المسيح ذات وجهين ففي موته مجد الله بكل ما هو عليه وكان ذلك يتضمن الكفارة وهو الأساس العادل الذي عليه يخلص المفديين. ومن جهة أخرى فإن هذا الموت يرتبط بنا ونحن في هذا العالم. يقول الرسول بولس "أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته؟" ويرينا أنه هو نفسه قد دخل إلى هذا الحق عندما كتب "مع المسيح صلبت" وهكذا مريم المجدلية والذين كانوا معها وهم يتخذون مكانهم عند الصليب ويوحدون أنفسهم بموت المسيح. إن مريم لم تعرف شيئاً من هذا التعليم ولم تعرف المعنى الكامل لما فعلته فقد ماتت عن كل ما في العالم ومات العالم لها عندما علق على الصليب أمام عينيها ذاك الذي كان كل حياتها. هذه بحق مثال للحالة المسيحية المعتادة وعلينا أن نواجه أنفسنا بهذا السؤال إلى أي مدى نحن نحيا هذه الحياة.
وإن كنا نشير إلى المعنى الداخلي لمركز المجدلية فإننا لن نحاول أن نسبر غور تلك العواطف التي ملأت قلبها وقلب الذين كانوا يرافقونها ولكن نؤكد على شيء واحد فكيفما كانت الظلمة المحيطة بهم غير أنه كان لهم كل شيء بواسطة ذاك الذي آمنوا به. وليس من أي شك نازع نفوسهم من جهته بل بالحري كانت ظروف موته جعلته غالياً على قلوبهم أكثر مما مضى. ونتجاسر على القول بأن شعورهم الغالب وهم واقفون هناك أنهم كانوا في شركة معه في آلامه وبما كانت آلامه الجسدية ينظرونها بأكثر قوة. ولكن ما هو مؤكد لنا أن عواطفهم المغمورة في محبوبهم المتألم قادهم إلى المشاركة معه وإلى توحيد أنفسهم به بالقدر الذي أدركوا فيه حالته التي كان عليها. وعندما يقرأ مزمور 22 بالارتباط بهذا الموقف فإننا سنكون أكثر قدرة أن ندرك ما وعته تلك النفوس المكرسة وهي تصغي بخشوع إلى الكلمات التي انسابت من هذه الشفاه المقدسة. فالثيران الكثيرة أحاطت به وأقوياء باشان اكتنفته وهم يفغرون أفواههم عليه كأسد مفترس مزمجر. ثم ماذا عنه؟ فهو انسكب كالماء وعظامه انفصلت وقلبه صار كالشمع ذائباً في وسط أمعائه. قوته يبست مثل شقفة ولسانه التصق بحنكه. ثم يتجه إلى الله فيقول وإلى تراب الموت تضعني. بل وهناك أكثر من ذلك فالكلاب أحاطت به وجماعته الأشرار اكتنفته، ثقبوا يديه ورجليه وهنا نتوقف. ولعل القارئ يدرك كل جملة قيلت في المزمور كله وعند ذاك يكون قادراً أن يدرك بحسب قياسه خصائص هذا المشهد – مشهد الجلجثة وهو يعبر على قلب المجدلية. فيا له من متألم مبارك! إن كل آمال هؤلاء الأربعة وكل آمالنا نحن معلقة عليك أنت يا سيد وعلى ما احتملته على الصليب إننا نباركك يا إلهنا وأبانا إذ أننا لم نعرف ذلك فحسب بل إنك أيضاً وضعت أقدامنا على صخرة الدهور هذه. وإننا بنعمتك نسر بأن نقرّ أنه ليس لدينا أساس نستريح عليه أمامك وإنما المسيح وعمله الذي أكمله. ولهذا نسبحك الآن ونسبحك أيضاً طوال الأبدية آمين.
ونأتي الآن إلى لمحة أخرى ترتبط بالمجدلية وذلك بعد موت يسوع ونجدها في الثلاثة الأناجيل الأولى. ونقتبس من متى: "وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من بعيد وهن كن قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه وبينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسى وأم ابني زبدي" (مت 28: 55 و 56). ويتبين بوضوح أن مريم انسحبت من المكان الذي شغلته قرب الصليب لكي ترافق نساء أخريات الذين تبعن يسوع من الجليل فعندما استودع الرب أمه لتلميذه المحبوب أخذها في تلك الساعة – ما نقرأ – إلى خاصته، ومعنى هذا أنه على الأرجح ن هذه الجماعة التقية القليلة قد انفكت بحسب توجيه الرب وتنسحب مريم المجدلية مع مريم زوجة كلوبا إلى المكان الذي يقف فيه الرفقاء الآخرون اللذين من الجليل. هؤلاء النسوة كن ينظرن من بعيد، ويقول لوقا "وكان جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل واقفين من بعيد ينظرون ذلك". ما الذي نجمعه من هذه المقارنات في الأناجيل. كان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ وهم يتممون الكتب دون أن يدروا ويسخرون منه بتعبيرات من مزمور 22. كذلك اللصان اللذان صلبا معه كانا يعيرانه. والعسكر اقتسموا ثيابه وألقوا قرعة على قميصه. وفوق ذلك كانت الظلمة على الأرض كلها من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة. ثم ارتفعت أيضاً صرخات الرب المبارك نفسه الأولى وهو يعاني من ترك الله له والثانية عندما أسلم الروح. والأرض تزلزلت والصخور تشققت. هذه الأمور أو بعضها مما رأته المجدلية ومن كن برفقتها ومعارفه الذين وقفوا من بعيد ورأوا ذلك بكل تأكيد بعيون باكية وقلوب ممزقة.
ولكن هذا الشخص المبارك الذي سمر على الصليب ما الذي كان يجب أن يشعر به؟ من جهة مشاعره المرتبطة بآلامه الواقعة عليه من يد الناس نجد هذه الكلمات التي يلتمسها: "اقترب إلى نفسي فكها (افدها) بسبب أعدائي افدني. أنت عرفت عاري وخزيي وخجلي. قدامك جميع مضايقي العار قد كسر قلبي فمرضت. انتظرت رقة لم تكن ومعزين فلم أجد" ولكن كلا يا ربنا المبارك فإن أعداءك قد تصلبت قلوبهم ضد أي رقة أو عطف ولم يوجد واحد غير ذلك اللص الذي كان معلقاً بجوارك الذي استطاع أن يميز من أنت وعرف بمجيئك في مجد ملكوتك. كلا لم يوجد إلا النسوة اللاتي تبعنك من الجليل ومن بينهن مريم المجدلية. هؤلاء من أحببنك كثيراً وكرسن نفوسهن لك مع أنهن لم يكن لديهن نور تجاه قيامتك. ولكن أشد تلك الأحزان جميعها كانت على مسامع أتباعه الأمناء التي جاءت من صرخته (ولابد أن الذين كانوا بقربه سمعوا تلك الصرخة) "إلهي إلهي لماذا تركتني؟". وكانت هذه صرخة المرارة التي شرب كأسها بآلامها المبرحة لدينونة الله. ولكنه بذلك مجد الله تماماً وكاملاً وصار كفارة لأجل خطايا شعبه ولكل العالم.
وهكذا تم الموت وبقي شيء واحد وهو دفنه. قال النبي "وجُعِل مع الأشرار قبره (وهكذا ترك ترتيب هذا الأمر مع الأعداء) ومع غنى عند موته". وهذا ما حدده الله إذ أن يوسف الرامي وهو تلميذ خفي أعد الله- هذا الإناء المختار لتتميم إرادة الله. وإذ حصل على إذن من بيلاطس باستلام جسد يسوع فأخذه بكل وقار وكما قال مرقس: "ووضعه في قبر كان منحوتاً في صخرة ودحرج حجراً على باب القبر. وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسى تنظران أين وضع". كانت مريم أمينة في تكريسها للمسيح أثناء حياته ووقت آلامه حتى النهاية وبعد موته أيضاً. كان حقاً هو حياتها، وعندما وضع حجر عظيم على باب القبر فإن الشمس نفسها قد غربت. لقد كان هو كنز قلبها الوحيد، حتى لو لم تراه بعد ذلك فقلبها الوحيد، حتى لو لم تراه بعد ذلك فإن العالم سيصبح لها برية قاحلة تحت قضاء الله. لقد كان فعلاً كل شيء لنفسها، وعندما كان القبر يتسلم هذا الجسد لم يعد لأي شيء في العالم له قيمة عندها. وبينما كانت الظلمة تلف روحها وبينما كان رجاؤها ينطفئ كانت عواطف قلبها لذاك الشخص الموضوع في القبر وهي عواطف إلهية لا يمكن إطفاءها، هذه التي هدأت كآبتها وصارت مصدراً إلهياً لها من النور والرجاء المستمر. إنها لم تعرف ما سيتم من خلاص ولم تكن تتوقع ذلك ولكنها أحبته ذاك الذي هو سيدها والذي كان هو كل شيء لله وللمجدلية أيضاً. لم يكن نوراً يطعم نفسها بل المحبة، ومريم أحبته أكثر ولذلك غفر لها أكثر. وهكذا دائماً كلما تعمق الإحساس بالحالة التي أنقذنا منها كلما غمرت عواطفنا بهذا المنقذ.
مريم وسيدها المُقام
بعد دفن الجسد الكريم لربنا المبارك فإن مريم المجدلية مع رفقائها الذين أتين معه من الجليل ونظرن القبر وكيف وضع جسده (قارن 23: 55 و 56، مع مرقس 15: 47، 16: 1) "فرجعن وأعددن حنوطاً وأطياباً وفي السبت استرحن حسب الوصية". ويتبين لنا بأكثر وضوح ثلاثة أشياء: أولاً محبتهم للمسيح. وثانياً أنه لم يكن لديهم أي توقع أو أمل بالقيامة وأخيراً تقواهم الذي نراه في خضوعهم لكلمة الله. لقد تاقوا أن يحضروا عطاياهم النابغة من محبتهم الملتهبة للرب لكي يطيبوا جسده الميت ولكن السبت قد جاء، وهؤلاء النسوة القديسات وبينهم مريم المجدلية وهي أكثرهن شهرة انتظرن بهدوء واسترحن طاعة للوصية قبل أن يحملن الدهن والأطياب لمسح الجسد المقدس لربنا المبارك. ولكن "بعدما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه. وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس". أو كما يقول متى "وبعد السبت عند فجر أول أسبوع" أو كما يقول يوحنا "والظلام باق".
هذه الروايات جميعها ترينا تلك العواطف الجياشة من قلوب النسوة لمن عرفوه وتبعوه إذ كانوا قد ارتبطوا به بعرى لا تنفصم بفضل النعمة التي حظوها من يديه. ولذلك لم يكن هناك شيء أكثر غلاوة منه بحسب تقديره لكي يقدموه بسخاء لجسده المقدس، وهكذا بأقدام مشتاقة أسرعن في طريقهن في الصباح الباكر في أول الأسبوع دون أن يخطر على بالهن شيئاً غريباً ينتظرهن. وقد عبرن عن أول حيرتهن بالقول: "من يدحرج لنا الحجر عن فم القبر؟". وعندما تطلعن رأين أن الحجر قد دحرج لأنه كان عظيماً. وقبل أن نأتي إلى رواية يوحنا نلاحظ أن هناك شيئاً واحداً لم يذكر، ولكن يخبرنا مرقس أنه عندما اكتشفن أن الحجر قد دحرج فإن المجدلية مع مريم أم يعقوب وسالومة دخلن إلى القبر فرأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلة بيضاء فاندهشن. وللتو فإن الشاب ميز خوفهن فقال لهن "لا تندهشن" معلناً لهم حقيقة القيامة ثم يكلفهن بالذهاب إلى تلاميذه وإلى بطرس ليخبرنهم بهذه الأخبار السارة المباركة وبأن الرب سيسبقهم إلى الجليل، مضيفاً "هناك ترونه كما قال لكم". أما إلى أي مدى تممن هذه الإرسالية فلا نخبر بذلك. والشيء الوحيد الذي نتعلمه أنهم هربن من القبر لأن الرغبة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات.
ولأن المجدلية هي نفسها موضوع تأملنا فنحن نتناول الأحداث كما تصفها رواية يوحنا الجميلة لأن مريم هي الغرض أمام فكر الروح، جنباً إلى جنب مع التعليم الذي ينساب من اختباراتها في ذلك اليوم، والشيء الأول الذي يلفت انتباهنا أن مريم عندما نظرت الحجر مرفوعاً عن القبر ركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما: "أخذوا السيد من القبر وليس نعلم أين وضعوه". كانت بلا نور ولكن كان أمام قلبها غرض واحد وكأنها فقدته في لحظة ولذلك امتلأت بحزن لا يوصف أو بالحري سكبت حزنها بلهجة مؤثرة والتي أظهرت بها خرابها التام – "أخذوا سيدي ولسنا نعلم أين وضعوه". لقد جرى بطرس والتلميذ الآخر مسرعين نحو القبر ليتحققوا لأنفسهم ما فهموه. كان بطرس بما يتميز بروح تواقة قد وصل أخيراً إلى المكان أما التلميذ الآخر فقد سبقه إلى القبر فنظر "الأكفان موضوعة والمنديل الذي كان على رأسه ليس موضوعاً مع الأكفان بل ملفوفاً في موضع وحده". كل شيء كان موضوعاً بترتيب وسلام ولكن أفكار بطرس لم تكن معلنة بعد مع أنه بالمباينة مع رفيقه أنه كان لا يزال في عدم الإيمان، أما التلميذ الآخر الذي جاء أولاً إلى القبر ودخل "رأى فآمن لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من بين الأموات". إن "التلميذ الآخر" آمن عندما رأى بالشهادة العيانية أن القبر فارغ. هذا الإيمان كان عديم الفائدة تماماً، فمع أنهم تعلموا أن القبر فارغ وأحد هذين التلميذين قَبِل البرهان على ذلك، لكنهم عادوا إلى بيتهم. صحيح أنهم كانوا يحبون الرب ولكن بيتهم لهم جاذبية، إذ كان ملجأ لهم في تلك اللحظة الرهيبة من تاريخ الفداء. وعندما نتكلم عن التلميذ الآخر نقول إن النظر أو البرهان العقلي دائماً بلا قوة، ومع أنه يرتبط دائماً بالحق ولكنه لا يقود إلى المسيح نفسه.
إن اختبار هذين التلميذين مُقدَّم لنا ليستحضر أمامنا بجلاء تام عظة تكريس المجدلية. ونتبين المفارقة بكل وضوح من هذه الكلمات: "أما مريم فكانت واقفة عن القبر خارجاً تبكي". فهي لم تسطع أن تعود إلى بيتها مثل التلميذين، إذ كان قلبها في حالة حرمان ووحيدة مع أنها كانت محصورة لتبقى في التي رأت فيه آخر مرة الجسد الكريم لسيدها. وكما كتب واحد فقال "بالنسبة لها وهي بدون يسوع أصبح العالم كله لا شيء وإنما قبر فارغ وان قلبها أكثر فراغاً فجلست عند القبر حيث كان الرب الذي أحبته...... لم تجد تعزيتها لأنه لم يعد بعد هناك". حقاً كانت لحظة مظلمة في تاريخ نفسها وتعلمت أن تكون أدبياً ميتة مع المسيح، ولكن المسيح المقام من الموت كانت عيناه مستقرتين عليها منتظراً اللحظة المناسبة ليمسح دموعها عندما يعلن نفسه لها. كانت هناك خطوة أخرى قبل نوالها البركة "وفيما هي تبكي انحنت إلى القبر فنظرت ملاكين بثياب بيض جالسين واحداً عند الرأس والآخر عند الرجلين حيث كان جسد يسوع موضوعاً. فقالا لها يا امرأة لماذا تبكين؟ قالت لهما إنهم أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه". لاحظ كم كان قلبها مبتلعاً في سيدها. كان هناك فكر واحد، وفكر واحد فقط يستحوذ على نفسها أنها فقدت سيدها. لم تعد ترى أو تسمع شيئاً بخلافه فهي بدونه لا تمتلك شيئاً مطلقاً.وفضلاً عن ذلك فقد أحبته بصورة مكثفة، وبدا كما لو لم يكن يوجد على الأرض نظيرها لكي تمتلكه لنفسها تماماً. قالت للتلاميذ عنه "السيد" أما للملائكة فقالت عنه "سيدي". هذا هو طريق المحبة، إنها قوية كالموت والغيرة قاسية كالهاوية، وإذ تختم عليها وتمتلكها كغرض فإنها تستبعد كل ما عداها. محبة كهذه مياه كثيرة لا تطفئها والسيول لا تغمرها.
وكم شعر قلب الرب بالامتنان إزاء هذا الدلائل لعواطف مريم التي لم تمت والتي تضمنت بكل تأكيد إعجاباً لا يقاوم لقلبه. نعم لقد شعر بها وشاركها ألمها وحزنها وكان على استعداد أن يسكب عليها زيت الفرح عوض حزنها وثياب التسبيح عوضاً عن روح الأسى. ولذلك بعدما أجابت على سؤال الملائكة "التفت إلى الوراء فنظرت يسوع واقفاً ولم تعلم أنه يسوع". فكل مرغوبها الآن ولكنها كانت مستغرقة في أحزانها ومحصورة في أفكارها حتى أنها لم تعرف سيدها. إنها لا يقال عنها كما قيل عن تلميذي عمواس أنه أمسكت أعينهما عن معرفته، ولكنه لم تكن تعرف عن يسوع سوى أنه دفن وغير موجود في القبر. كانت كل مشاعرها مستغرقة تماماً حتى أنها لم تفكر في غير ذلك. كان يسوع واقفاً أمام عينيها ولم تعرف أنه يسوع. آه ياقارئي المحبوب فغالباً ما نكون نحهن في ظروف مشابهة في وسط مواقف الإحباط والفشل الكثير يقترب الرب إلى نفوسنا ولا نقدر أن نعرفه. وبدلاً من الترحيب به فإننا نشبه بالحري التلاميذ الذين لما رأوا يسوع ماشياً على البحر ظنوا أنهم رأوا خيالاً فصرخوا من الخوف. ولذلك يمكننا أ، نفهم لماذا لم تعرف مريم سيدها. وإن كانت لم تعرفه حقاً غير أنه كان يسعى باحثاً عن خروفه منادياً إياها باسمها وبالنعمة صارت مستعدة أ، تسمع وتتجاوب مع هذا الصوت المعروف جيداً لها.
تدخل يسوع وقال لها: "يا امرأة لماذا تبكين؟ من تطلبين؟". فإن كان سؤال الملائكة لها "لماذا تبكين؟" ولكن الرب يضيف إليه "من تطلبين؟" فهو بإمكانه أن يجيب على مرغوب قلب مريم أما الملائكة فليس بإمكانها أن تعلن غرض قلب مريم. ولكن كان هو الرب الذي يقف أمامها ولم تعرفه. إن المشغولية الكثيرة بأفكارنا تعميننا دائماً وتبقينا في عدم الإيمان وهكذا كان الأمر مع المجدلية. ظنته أنه البستاني فقالت له "يا سيد إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه". وما نلاحظه هنا أن مريم كانت مغمورة في غرضها حتى أنه لم يكن لديها أي احتمال بأن أحداً لا يعرف من الذي تبحث عنه.ويا له من استغراق مبارك! فليس هناك شخص آخر في كل العالم لقلبها وبالتالي فلا حاجة لها أن تقول عن من هو الذي تبحث عنه. لاحظ هنا أيضاً أنه ليس لديها صعوبة أن تحب فهي امرأة ضعيفة قالت "وأنا آخذة" أتعرف نحن جميعاً تلك العواطف القوية التي تربط النفس بيسوع بروابط شديدة لا تنفك وتجعلها راغبة في ذلك ومملؤة بالسرور لتحمل أي ثقل يتعين عليها.
هل من برهان عظيم يراه الرب في تكريس عبيده؟ لقد عرف قلبها ولكنه لم يسر بالتعبيرات التي تتولد عن محبته. إنه انتظر مريم لكي تعلن عن عمق محبتها قبلما يعلن عن نفسه ويحول حزنها إلى فرح. لقد جاءت تلك اللحظة وبكلمة واحدة إذ نطق باسمها فاستدعى النور نور حضرته الذي أشرق في ظلمة نفسها الحزينة. كان هو الراعي الصالح وكالراعي الصالح بذل نفسه عن الخراف، وأيضاً كالراعي الصالح يدعو خرافه الخاصة بأسماء ويخرجها: "فقال لها يسوع يا مريم". بكلمة واحدة تكلمها فقط أمكنه أن يصل باستقامة إلى قلبها طارداً كل ضباب الشكوك التي تجمعت فيها ومنقذاً إياها من أفكارها ومعلناً المسيح لها كالقائم من الأموات. فيا له من تغير قوي حدث في نفسها! كانت اللحظة التي سبقت امتلاءها بالتعزية عن حزنها – هذا الحزن الذي يمكن قياسه فقط بشدة محبتها له – والآن قد جفت دموعها عندما أعلن سيده نفسه لها.وهو إذ دعاها مخاطباً إياها فأنشأ فيها تجاوباً سريعاً: "فالتفتت تلك وقالت له ربوني (الذي تفسيره يا معلم)".هذا النداء الإلهي متى عرف فإنه يتضمن معه إعلان الشخص الذي ينادي وسلطانه الإلهي. عندما رأى يسوع سمعان الملقب بطرس وأخاه أندراوس يلقون الشباك في البحر دعاهما فللوقت تركا الشباك وتبعاه.فذاك الذي دعاهما كما في حالة مريم المجدلية ألقى عليهم محبته التي تحصر فلم يتمكنا غير أن يتبعاه. إنها لحظة مباركة متى وصلت دعوة يسوع إلى القلب.
مريم كمرسلة من الرب
وقبل أن نتناول هذه النقطة من الضروري أن نحدد بكلمات قليلة مركز مريم. ونقتبس هنا لغة جميلة وحلوة قالها أحدهم: "أنا لا أشك أنا مريم (قبلما يجعل الرب نفسه معروفاً لها كالقائم من الأموات) كانت تمثل البقية اليهودية في ذلك اليوم والمرتبطة جداً بالرب ولكنها لم تعرف قوة قيامته. كانت وحيدة في محبتها وقوة عاطفتها التي جعلتها في عزلة. لم تكن هي وحدها التي خلصت ولكنها أتت بمفردها تطلبه وتبحث عنه – صحيح أنها بحثت عنه بطريقة خاطئة – قبلما تستعلن شهادة مجده في عالم الظلمة لأنها أحبته شخصياً.... يا له من قلب محب.... ومشغول بيسوع، عندما كانت شهادة الإنسان لا تزال مطلوبة. إنه لها أعلن بيسوع نفسه أولاً عندما قام من الأموات". وهذا يوضح لنا تماماً كلمات يسوع لها "لا تلمسيني". لابد أن مريم قامت بإيماءة أو مدت يدها للتعبير عن حرارة محبتها كما لو أن يسوع القائم يصبح الآن المسيا على ا لأرض ولكنه لم يعد الآن ليؤسس ملكوته على الأرض إذ قال لمريم أنه لم يصعد إلى أبيه. وقبل أن يظهر مجده في هذا العالم كان عليه أن يربط مفدييه بنفسه بروابط سماوية. قال قبل ذلك إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فيه وحدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير. لقد مات وظهر الثمر والآن يضع خاصته معه على أساس الفداء في علاقاته السماوية. وهنا نجد لمحة لمقاصد الله إذ يجعل خاصته مشابهين لصورة ابنه الذي مجد الله على الأرض وأكمل العمل الذي أعطاه إياه أن يعمل، وهو يقترب الآن من تمجيده كالإنسان – كرجل مشورات الله – عن يمين الله.
بهذه الحقائق المجيدة كانت مريم مكلفة لكي تُرسَل. قال لها الرب "اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم". وقبلما تتمكن مريم من حمل رسالة كهذه (إذ كان لابد لها أن تكون في هذا الحق بقدر ما) كان عيلها أن تتعلم من ذلك الوقت أنها لن تعرف المسيح حسب الجسد كما كانت تعرفه قبلاً فالأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً وليس عليها بعد ذلك أن تتبع سيدها على الأرض ولكن صار لها الامتياز المبارك أن تتبعه إلى حيث يسكن بعد. وبالاختصار هي لا تعد تعرفه في وضع اللحم والدم بل كالإنسان السماوي الممجد عن يمين الله – هذا لا يعني أنها قد دخلت إلى جميع هذه الامتيازات لأن الروح القد س لم يكن بعد ولكننا متحققين بأن قلبها كان مفتوحاً لتقبل مثل هذه الأمور، وسواء أدرن قليلاً أم كثيراً فإنه كان عليها أن تقبل هذه الإرسالية لتسرع في تتميمها. قال لها الرب "اذهبي إلى إخوتي".... "فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب وأن قال لها هذا".
كان لها الامتياز فعلاً أن تحمل مثل هذه لأخبار الطيبة فأظهرت تقديرها بطاعتها الحقيقية والسريعة للأمر الذي تقبله. كانت مؤهلاتها لهذه الخدمة أولاً وقبل كل شيء عواطف محبتها للمسيح التي كانت شديدة وتحصرها فأسرعت لتوصيل تلك الرسالة الشفهية، كما أنها امتلكت أيضاً مؤهلات مطلوبة للشاهد الحقيقي إذ رأت وسمعت (قارن يوحنا 3: 11، 1 يوحنا 1: 3). ولذلك أمكنها أن تشهد للتلاميذ.
ونضيف هنا كلمات قليلة من جهة فحوى هذه الرسالة. فإنه حتى تلك اللحظة لم يكن الرب قد حدد تلاميذه من قبل بأنهم إخوته. سبق أن قال عنهم عبيداً وأصدقاء ولكنه الآن بفضل موته وقيامته استطاع أن يضعهم على ذات المستوى من القيامة حيث يقف الآن. والكلمات التالية تشرح هذا المعنى "إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم". "إني أصعد إلى أبي" – وهو يريد أن يعلمنا ذات مشهد العلاقة الجديدة التي يضعهم فيها وهي السماء، لقد عرفوه وأحبوه وتبعوه وهو هنا على الأرض ولكن كل هذا في الوقت الذي كانوا فيه كشعب أرضي بحسب أفكار الله من جهتهم أما الآن فعليهم أن يجتازوا إلى المكان والعلاقة الجديدة كقديسين سماويين بسبب ارتباطهم به كالمقام من الأموات. وتجب الملاحظة بأكثر دقة عند شرح هذه الرسالة الشفوية أن المكان والعلاقة التي دخل إليها المسيح نفسه كالمقام من الموت والصاعد إلى السماء إنما تحدد شعبه كذلك. وبكلمات أخرى نقول أنه في المسيح المقام والممجد نستطيع أن نقرأ ما هي مشورات الله تجاه مفدييه "كما هو السماوي هكذا السماويون أيضاً. وكما لبسنا صورة الترابي هكذا سنلبس صورة السماوي". (1 كو 15: 47 - 49).ويتفق مع هذه الحقائق المباركة ما يقوله الرسول بولس "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح". ويستمر في عرض كل تلك البركات التي أدخلنا إليها لتنساب لنا من خلال هذين اللقبين – إله وأبو ربنا يسوع المسيح. وكنتيجة لتلك المشورات فقد أحضرنا لنقف في ذات المكان والعلاقة كالمسيح نفسه. يا لها من نعمة لا ينطق بها! وكم تربطنا معاً بقلب الله وبقلب ربنا المبارك.
لا يقال شيئاً بعد ذلك عن المجدلية ولكن تبقى أمامنا ملاحظتان: الأولى نتيجة تبليغها تلك الرسالة أن التلاميذ اجتمعوا معاً – صحيح أنهم كانوا في ضعف وخوف من اليهود ولكنهم كانوا مجتمعين والأبواب مغلقة أمام عداوة الإنسان وفي استبعاد للعالم. لقد كانوا دائرة سماوية جديدة – الكنيسة – والتي تشكلت في العيشة من ذلك اليوم إنه أول الأسبوع الجديد والذي جاء فيه يسوع ووقف في الوسط وقال لهم سلام لكم ولما قال لهم هذا أراهم يديه وجنبه عندئذ فرح التلاميذ إذ رأوا الرب. ولذلك امتلأت هذه الدائرة بالسلام – السلام الذي استحضره المسيح بموته لهم بعدما مجد الله. وقد جاء به عند حضوره المبارك في وسطهم. كانوا قد استمتعوا برفقته من قبل ولكنهم الآن عرفوه – بالرغم من ضعف إدراكهم – بطريقة جديدة كالشخص المقام وقيامته الحقيقية تثبت لهم في ضعفهم وهو يظهر لهم بغنى نعمته يديه وجنبه. كانوا قد عرفوا محبته من قلب بقدر ما، أما الآن فعرفوها أنها المحبة التي هي أقوى من الموت والتي تربطهم بقلبه إلى الأبد ولذلك كانوا سعداء عدا رأوا الرب.
والنقطة الثانية كيف أصبحت مريم بعد ذلك؟ والإجابة أنها اختفت وذابت في الكنيسة – وصارت واحدة من الرفقة المباركة حيث كان الرب يأتي في وسطهم ويقف ليختفي كل ما هو من الإنسان وتختفي فرديته ليغمر كما هو في تلك الرفقة المقدسة حيث ليس يهودي أو يوناني مختون أو أغلف بربري سكيثي عبد حر بل المسيح الكل (أي كل شيء) وفي الكل. وبالغبطة كل مؤمن عندما يذوب بذات الطريقة في المكان حيث المسيح، والمسيح وحده يتفوق، حيث مجده يغمر النفس.
مريم من بيت عنيا إن كانت مريم أم ربنا مباركة بين النساء وقد اختيرت كإناء لتقديم المسيح إلى العالم، فإن مريم من بيت عنيا غالباً ما شغلت مكاناً مفضلاً مساوياً لها. وقد كانت واحدة من هذا البيت المعروف جيداً الذي يضم ثلاثة أفراد، والذي قيل عنه "وكان يسوع يحب مرثا وأختها مريم ولعازر". وأحياناً ما كان الرب يخلد إلى الاعتزال والراحة ويطلب شيئاً من الإنعاش لنفسه وسط هؤلاء التلاميذ المحبوبين لديه. إنهم أحبوه لأنهم أحبهم أولاً وكانت عواطفهم في عفويتها وتكريسها تبهج قلبه وسط الظلمة العميقة لرفضه. وبين هؤلاء الثلاثة كانت مريم وهي أكثرهم مقدرة للتجاوب مع فكره كما كانت لها شركة مع أفكاره. وهذا بالتأكيد صحيح من جهتها إذا قورنت مع مرثا. وليس من شك أن يقال أنها تفوقت على لعازر في عينها البسيطة وفي تكريسها للرب، ومع أن ما قيل عنه كان قليلاً. ولكن سواء مريم أو مرثا أو لعازر فالكل بالنعمة، وفي فشل مرثا وفي تفوق مريم إنما تقدم لنا دروساً ثمينة ليتعلم شعب الله ويتحذر وينقاد في كل العصور. وإن كنا بصفة خاصة نسجل هذه التأملات عن مريم، غير أنها بالضرورة مرتبطة بأختها وبأخيها، حتى يكون هناك التقدير الصحيح لهذه الشخصية الروحية المتميزة. إنها ذُكرت بالاسم فقط في (لوقا 10 و يوحنا 11 و 12). أما متى ومرقس فيحفظان كلاهما رواية دهن الرب بالطيب الكثير الثمن في ليلة اعتقاله وموته.
في لوقا 10 نلاحظ مريم التي تميز بأسلوب بسيط جداً. وللحال بعدما يرد مثل السامري الصالح نقرأ: "وفيما هم سائرون دخل قرية فقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها وكانت لهذه أخت تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه" (ع 38 و 39). وقبل أن ندخل إلى معنى هذا الاتجاه عند مريم، هناك كلمة تقال بالارتباط بهذه الرواية. فإن السامري الصالح ضمد جراح الرجل الذي وجده بين حي وميت وصب عليه الزيت والخمر وأركبه على دابته وأتى به إلى فندق وقدم له كل ما هو ضروري له حتى يعود. ونتعلم الآن من مشغولية مريم ما هي الخدمة الساهرة للنفس المخلصة في الفترة الفاصلة الآن (قبل مجيئه) فإن سماع كلمة يسوع هي بالحق النصيب الصالح الذي لن ينزع.
ونجد التباين واضحاً للطريقة التي تتعامل بها الأختان. فمرثا قبلت يسوع في بيتها "وكانت لهذه أخت (أيضاً) تدعى مريم التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه". وفي كلمة "أيضاً" نجد التباين. فمرثا كانت هي الأخت الكبرى، وقيل أنه "بيتها". ولا يمكننا أن نشك لحظة في كون مريم ربطت نفسها بمرثا من جهة قبولها للرب. فإن كان الأمر كذلك فإن كلمة "أيضاً" نجد قوتها والتي تعني ليس أن مريم قبلته فحسب بل أنها جلست كذلك عند قدمي يسوع تسمع كلامه. هنا نرى نعين من النفوس – الذين قبلوا الرب كالمخلص وهم يخدمون الرب بالطريقة التي يظنون أنها الأحسن. ونوع آخر وهم الذين بعدما قبلوه يصرون برغبة قلوبهم أن يتعلموا فكرة وأن يندمجوا معه مثل داود فكانت رغبته أن ينظر إلى جمال الرب ويتفرس في هيكله ولذل فإنهم يستمتعون بالرب وهو أيضاً يمنحهم أشواق قلوبهم. إنه شيء مفيد لنا إن كنا نجتهد في توضيح عمل مريم الذي يوصف هنا.
فأولاً جلست عند قدمي يسوع. والكلمة التي تحمل لنا هذا المعنى قوية – ويبدو أنها ترينا عادتها عندما تتوفر لها الفرصة. ويلفت انتباهنا قبل كل شيء جلوسها. وقيل عن كانت به الشياطين بعدما خرجت أن وجده الناس جالساً عند قدمي يسوع ولابساً وعاقلاً. ولذلك نرى في اتجاهها هذا ما يدل على أن حيرة نفسها قد استقرت – وبلغة التفسير المسيحي أنه صار لها سلام مع الله بربنا يسوع المسيح وأنها تحررت من قوة الشيطان ومن كل ما يعمله الشيطان ليجعل النفوس في حالة العبودية. ولذلك فإذا فرغت من نفسها بالحرية التي نالتها بواسطة قوة الروح القدس فإنها تحررت من كل شيء لتنشغل بالرب وحده. إننا لا ندعي أن مريم قد دخلت إلى التمتع بهذه البركات بمعناها المسيحي الكامل ولكن كان لها المسيح نفسه وبالتالي كان لها كل شيء. ولذلك كان قلبها مستريحاً وكان لها شبع فائض، والذي كانت تجلس عند قدميه كان لها كل شيء. وأمكن لها أن تقول بقلب فائض "أنا لحبيبي واشتياقه إليّ".
شيء آخر كان اتجاهها يتضمنه فالجلوس عند قدميه يعلن أنها صارت تلميذة له. ولذلك إذ يتحدث بولس إلى اليهود في أورشليم مذكراً إياهم بأنه تربى ي هذه المدينة "مؤدباً عند رجلي عمالائيل بحسب تحقيق الناموس الأبوي" (أعمال 22). وكما قلنا قبلاً ليس جميع المؤمنين صاروا تلاميذ وعلينا هنا أن نعرف مركز مريم جيداً. إنها تضيف لنا معنى إذا فضلنا قراءة الكثيرين للنص "عند قدمي الرب". ومن الملاحظ أن روح الله يلفت انتباهنا في هذه الرواية إلى مطالب يسوع كرب، إذ يعطينا مثالاً بها إذ كانت كل نفسها تعترف به، وإذ جلست عند قدميه اعترفت به بهذا اللقب المتفوق والمطلق. إنها لحظة مباركة لأي نفس متى وصلت إلى هذه النقطة، عندما يجلس على عرش القلب ويسود. وعندما تصبح إرادته هي الناموس الوحيد لحياتنا اليومية إذ نفهم كلمته: "من يحبني يحفظ كلمتي".
ولكن مريم كانت جالسة عند قدمي الرب تسمع كلامه. هذا هو الشيء الوحيد الذي سر الرب به وكان قد صرخ مرة تلو الأخرى "من له أذن للسمع فليسمع" (انظر أيضاً رؤيا 2 و 3). وهو قد وجد تلك التي نالت نعمة الأذن السامعة والتي أعد قلبها للشركة الإلهية التي أعدها. قال في حديثه لتلاميذه "لا أعود أسميكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يفعل سيده ولكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي" (يوحنا 15: 15). وهذا سيساعدنا في فهم طبيعة أقواله لمريم. وكم كان سرور الرب بأن يمنح هذه الأشياء السماوية لمن كانت النعمة قد أعدتها لتتعلم، بين قلوب غليظة وآذان ثقيلة السمع وعيون لا ترى كانت تحيط به من كل جانب. ولكن كم كان منعشاً لنفسه بما لا ينطق به لقاؤه مع هذه النفس التواقة لتسمع كلامه! وكم كانت من جانبها تتجاوب في خوف مقدس وفرح وهي تصغي متكلماً إليها عن أموره وأمور أبيه. فالآب الذي أرسله أعطاه وصية فبماذا يقول وبماذا يتكلم (يوحنا 12: 49). إنه امتياز لا يوصف لمريم أن تصغي إلى الرسالة التي سلمها الآب إلى ابنه (قارن أشعياء1: 4).
وفضلاً عن ذلك فإن الكلمة التي تكلم بها كانت إعلاناً عن نفسه، فعندما قال اليهود "من أنت؟" أجاب أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به، وهذا معناه أن كلماته تُعبر عن نفسه تماماً. ولكن علينا أن نتذكر أن الآب أعلن فيه وبواسطته، بكلماته وبأعماله. كما قال لفيلبس الذي رآني فقد رأى الآب. ونحن لا نفترض بأن مريم فهمت كل هذا لأن الروح لم يكن قد أُعطِي بعد لأن يسوع لم يكون قد مجد بعد. وعلى كل فإننا الآن نكون أكثر إدراكاً لما تتضمنه الأقوال التي كان يتكلم بها، وكم كانت البركة غنية لمريم إذ سمح لها أن تجلس عند قدمي الرب ونحن أنفسنا نتشجع حسناً في إتباع المثال الذي اتخذته. فإذا فعلنا ذلك فإننا سنسر قلبه ونجد أنفسنا في مكان البركة التي لا ينطق بها ولا يسبر غورها. لقد تبرهن لنا أن هذا هو سر نمو كل روحي والسرور بالرب نفسه وبالأمور السماوية.
وإذا تأملنا للحظة أن ما أحدثته مرثا من اضطراب فإنما سيعزز تقديرنا لتقدير الرب لمشغولية مريم به. كانت مرثا مرتبكة في خدمة كثيرة، وخدمة بطريقتها الخاصة، إذ فكرت بالأسلوب الذي يوافق نفسها باعتبارها مُضيّفة لغريب. أرادت أن تعطيه أكثر مما تأخذ منه، أرادت أن تكرمه بحسب أفكارها عن واجبات الضيافة. وبالتالي لم تكن مسرورة بأن مريم لم تساعدها في هذه الخدمة. ولذلك جاءت وقالت "يا رب أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تعينني". إن الرب كان يحب مرثا كما نعلم، ونحن متأكدين أنها كانت نحب الرب. وما لم تكن عندها هذه المحبة ما أمكنها أن تخاطر للتكلم إليه بهذه الطريقة الحادة بل والمستبدة. تفكر في هذا يا قارئي أن رب الحياة والمجد جلس في هذا البيت بيت عنيا كإنسان غريب، وفي تنازله اللانهائي ونعمته سمح لمرثا أن تتكلم له بهذه الكلمات وأن تتوقع منه أن يجلس صامتاً في الغرفة لكي يرضيها! كلا بل إنه سمح لها أن تعاتبه لأنه ترك مريم عند قدميه. ولكن كم فاضت إجابته بالمحبة اللانهائية والنعمة لكي يفتح عيني مرثا إلى ما يقوله: "مرثا أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد ف